هُنا غزّة- وطن على أنقاض بيت شعر| على هذه الأرض.. ما يستحق الحياة 

أخبار وتقارير | 21 فبراير 2024 10:40 م

على أرض غزة... حيث تلتهم نيران الحقد والكراهية والعنصرية ما تبقى من أشجار الزيتون وأغصان السلام - ما زال يعتصر في قلوب ابناء هذا البلد حب الإنسان للحياة رغم حالة الحرب والتنكيل الذي يعيشه منذ 75 عاماً -حتى ولو كان ذلك مجرد حكاية يرويها للأجيال القادمة. 

كتب/ زياد البسارة:

هكذا أراد شاعر فلسطيني أن يبني وطنه الكبير على أنقاض بيت واحد من الشعر لا تزيد مساحته عن 28 حرفا هي مجموع أصوات لسان العرب. 

ربما لعلمه أن هنالك شعب يستحق الحياة من يشاطره ذات الإرادة والانتماء وهو يضرب أروع القصص والبطولات في كيفية إرتباط الإنسان بأرض يُراد أن يكون مصيره عليها - إما أن يموت عليها كما فعلت الحروب قديما أو أن يتم تهجيره قسرا إلى خارجها مثل ما يريد الإحتلال وعليه يكون الخيار.

على أرض غزة... حيث تلتهم نيران الحقد والكراهية والعنصرية ما تبقى من أشجار الزيتون وأغصان السلام - ما زال يعتصر في قلوب ابناء هذا البلد حب الإنسان للحياة رغم حالة الحرب والتنكيل الذي يعيشه منذ 75 عاماً -حتى ولو كان ذلك مجرد حكاية يرويها للأجيال القادمة. 

فهذه سيدة فلسطينية توقد ما أستطاعت جمعه من الحطب و القراطيس الكرتونية للقيام بعملية تصنع نوعية تحكي من خلالها حكاية تلك المرأة العربية التي مر عليها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب ذات مساء وهي لم تجد ما تقدم لإطفالها الصغار من طعام سوى أنها تضع بعض الحجارة على القدر الذي يغلي فيه الماء حتى توهمهم أنها تحضر طعاما عسى أن يشبع الأمل منامهم الذي ينتظرهم اثناء سماعهم لهذه الحكاية.

وكذلك اليوم تفعل هذه السيدة الفلسطينية لأطفالها دون أن تقدم لبطونهم شيء يؤكل - وهي تعلم جيدا أن إبن الخطاب لن يستجب لمعاناتها كما كان يفعل - أو أنه لم يولد بعد عمر ذلك الخليفة العربي الذي كان يتفقد حال الجائعين إذا ما وجدوا.

وعلى أرض غزة... حيث يتهاوى الضمير الانساني واحدا تلو الآخر خلف قصور النفاق وأسوار الشقاق مع كل غارة تستهدف أرواح المدنيين في غزة - تنهار على رؤوس ساكني هذه المدينة الطاهرة تلك الأبراج والمنازل والمساكن واحياء سكنية بالكامل.

ومن تحت ركام النخوة العربية الموءودة يخرج مجموعة من الرجال العاملين في أحد مزارع الدواجن ومصانع الأعلاف ممن إستشعروا بحقيقة الجوع الذي يفتك بأطفال هذه المدينة على مرأى ومسمع- ثم يقومون بتنقية هذه الاعلاف التي كانت تقدم للدواجن لعلهم أن يستخرجوا منها حبيبات القمح أو الذرة التي يمكن أن تصلح غذاء للإنسان الذي لم يجد ما يسد به رمق جوع اطفاله الذين إعتادت بطونهم على أكل أوراق الشجر بديلا لغذاءه .

لقد صنع هؤلاء الرجال بتلك الحبيبات من القمح ما تصنعه قوافل الغذاء والمساعدات العالقه في المعابر التي تنتظر موافقة قوات الاحتلال - وهم يعلمون أن عطاءهم لا يمكن أن يقدر إلا بثمن الإصرار على البقاء في هذه الأرض التي لا يعرف الفلسطيني سواها. 

وعلى أرض غزة... حيث يلفظ الصمت الدولي آخر أنفاسه متأثرا بضيق مواقفه من كل مذبحة جديدة تضاف إلى رصيد قوات الإحتلال - تستمر معاناة السكان في هذه المدينة بإطلاق نداءات إستغاثتها الأخيرة بعد نفاذ ما تبقى من مخزون السلع الغذائية الشحيحة جدا لعل تجد طريقها لسماع صرخات طفل صغير يحتضر - ولا حياة لمن تنادي سوى صدى عزيمة مجموعة من الشبان الفلسطينيين الذين أثروا معاناة شعبهم على أنفسهم وحاجة أسرهم رغم وجود ألف خصاصة تستدعي ذلك.

لكن عزيمة هؤلاء الشباب الذين تداعوا إلى صوت الحاجة الفلسطينية الجامعة لم تثنهم عن جمع ما أمكنهم من المساعدات الغذائية من أصحاب المتاجر لتحضير وجبات طعام مجانية لأطفال غزة في الشوارع وبكمية يمكن أن تسعف حاجة أولئك الأطفال الذين ينتظرون بأعداد كبيرة متراصين في صفوف طويلة لحظة وصول قليل من الفول الساخن إلى بطونهم الباردة الفارغة.

لكنهم بهكذا عزيمة لا يقامون الجوع فحسب -بل- يقاومون مخططات التهجير الذي يحاول الاحتلال الصهيوني الوصول إليها من خلال صناعة هذه المعاناة. 

وعلى أرض غزة... حيث تساقط الجبن العربي كسفا من السماء بقدر تلك الصواريخ والقنابل الفوسفورية التي تمطر بغزارة على ابناء هذه المدينه أينما ذهبوا وكيفما إتجهوا - ثمة تواطؤ آخر غير متوقع للطبيعة يفاقم من خطر المعاناة أكثر، حيث يطوق الصقيع سلسلة مخيمات النزوح في معبر رفح الحدودي مع مصر في الجنوب والمخصصة للفارين من بطش آلة الموت والتنكيل في الشمال.

وفي هذا المكان الذي يفتقد إلى أبسط مقومات البقاء على قيد الحياة يحاول المواطن الفلسطيني ولو مجرد أن يلتمس الدفء بالقرب من إخوانه العرب الذين لا يفصله عنهم سوى متر مربع واحد محمي بسياج حدودي شائك.

كل ذلك يدفع بالمرأة الفلسطينية إلى تحمل مسؤوليتها التاريخية في المشاركة بمسيرة نضال هذا الشعب من خلال ما يمكنها أن تقوم به من دور لمواجهة شظايا برد قارس يجلد خيام النازحين وحياة من بداخلها - مع تطوع مجموعة من السيدات لعمل مخيمات نزوح يدوية من رفات الملابس والمنسوجات التي بحوزتهن من أطلال منازلهم المدمرة- لعلها بذلك أن تواري سوءة العربي الذي لم يغار على شرفها المهدور في هذه الحرب والحصار والتهجير - وفي ذلك درس آخر لمن أراد الحياة.

وهكذا يستمر صدى كلمات الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش مدويا في ذاكرة شعب عربي يستحق الحياة بتلك المواقف والمبادرات البسيطة التي يسطرها على تراب هذه الارض، غير أن المعاناة والكفاح معا قد صنعا من هذا الشعب أسطورة للمجد في رحلة مقاومتهم للمحتل الذي يريد أن يجردهم من وطنهم وارضهم وتاريخهم على هذه الأرض. لكنه لا يعلم بإن هذا الشعب قد أصبح مدرسة تستلهم منها الشعوب فن المقاومة وادبيات النضال ويبقى لسان حالهم يقول:

على هذه الأرض......    ما يستحق الحياة